يعود تاريخها إلى أكثر من 300 سنة
دمشق: هشام عدرة
في
القرون الثلاثة الماضية انتشرت في مدينة دمشق حركة بناء نشطة حيث تم بناء
الأحياء والمنازل والبيوت العربية التقليدية والقصور الواسعة التي ما زال
الكثير منها موجودا في المدينة القديمة ومع هذا النشاط المعماري كان لا بد
من وجود مئات عمال البناء والزخرفة والذين تخصصوا في هذا المجال حيث كانوا
يمارسون أعمال البناء المتعبة على مدى ساعات طويلة، وفي ظروف صعبة كظروفهم
كان لا بد لهم من تعويض الطاقة الكبيرة التي يبذلونها ولا بد لهم من تناول
مأكولات تساعدهم على الاستمرارية في عملهم وتمنحهم حيوية وطاقة أكبر.
هنا انتبه أصحاب محلات الحلويات الدمشقية إلى أن هؤلاء العمال والذين لا
يملكون سوى قوت يومهم من خلال عملهم وأجرهم اليومي لن يتمكنوا من تناول
الحلويات الدمشقية الفاخرة والمرتفعة الثمن كالبقلاوة وشقيقاتها أو القطايف
بالقشدة الغنية بالسعرات الحرارية فما كان من هؤلاء إلاّ أن قدموا نوعا
جديدا من الحلويات البسيطة أطلقوا عليها «حلاوة طحينية شوشية» وباعوها
لهؤلاء العمال بأسعار رخيصة حيث حققت لهم ما يريدون فبنقود قليلة يأكلون
وجبة دسمة مؤلفة من حلاوة وخبز تحقق لهم الشبع وتعوض عليهم الحريرات
المصروفة في أعمالهم المجهدة.
ويؤكد الكثير من «حلاونجية الشام» أن هذه ليست حكاية خيالية بل هي رواية
حقيقية لابتكار هذا النوع من الحلوى والتي تحولت فيما بعد وعلى الرغم من
بساطتها إلى حلوى لجميع الناس وليس فقط للعمال والكادحين حيث باتت الأم
تحضرها كساندويتش لأطفالها يأخذونها معهم إلى المدرسة ليتناولونها بدلا من
الفطور والوجبات السريعة كما استقطبت الكثير من المتذوقين ليتناولوها مع
الخبز بين الوجبات الرئيسية اليومية خاصة مع تطوير حلاوة الطحينية والشوشية
بإضافة المكسرات لها كحبات الفستق الحلبي واللوز وكذلك مع عجنها بالشوكولا
التي حولتها من اللون الأبيض المائل للاصفرار إلى اللون البني الفاتح
فأضافت لها مذاقا جديدا ألذ وشكلا خارجيا أجمل.
في دكان بسيط كبساطة الشوشية بالشارع المستقيم التاريخي بدمشق القديمة ورث
ماهر موصلي أبو مظهر مع أشقائه الثلاثة مهنة تحضير هذا النوع من الحلوى عن
أسرته التي يؤكد أنها تعمل بها منذ 320 سنة وتوارثوها أبا عن جد حيث يمتلك
وثائق رسمية تبرهن على ذلك ومنها رخصة تصنيع حلاوة طحينية تعود لعام 1079هـ
في معملهم بحي الميدان الدمشقي والذي انتقل فيما بعد إلى الغوطة الشرقية،
يسهب أبو مظهر في الشرح وهو يوضح لنا كيفية تحضير حلاوة الطحينية وموادها
الأولية: لا بد في البداية من تحضير الطحينة والتي تتم في معملنا حيث نأتي
بالسمسم الخام ونقوم بنقعه بالماء ومن ثم نقشّره ونغربله وبعد ذلك نحمصّه
وفي المرحلة النهائية نقوم بطحنه بواسطة الأحجار البركانية والتي ما زلنا
نستخدمها منذ مئات السنين
وتتألف من حجرين فوق بعضهما البعض بقطر متر ونصف
متر (مثل رحى القمح) حيث يدور الحجر الأعلى فيما يكون السفلي ثابتا فتخرج
الطحينة من بين الحجرين.. بعد تحضير الطحينة نبدأ بتحضير حلاوتها وهي تتم
على الشكل التالي: نأتي بالسكر الذي نقوم بغليه ليتحول إلى قطر بعد ذلك
نضعه في الخفاقة ونضيف له مادة عشبية تسمى «العصلج» وهذه تحتاج لإعداد
وتحضير أيضا قبل استخدامها حيث نأتي بها جذورا مثل عرق السوس نقوم بطحنها
وغليها ونستفيد من مائها فقط وتضاف بنسب محددة للخفاقة ولتبقى فيها مع
القطر ثلاث ساعات نضيف بعدها حمض الليمون بعيار محدد بدقة وهنا يقوم العصلج
بتحويل القطر الأبيض الشفاف إلى مزيج يدعى «ناطف» لونه أبيض حديدي مثل
الكريما وذو قوام لزج وهنا من دون العصلج لا يمكن أن تحصل عملية التحول
هذه،
بعد ذلك نبقي الخليط ثلاث ساعات أيضا لتنتهي عملية الطبخ ونقوم بعدها
بأخذ 50% من المزيج الناطف و50% من الطحينة ونضع الكمية جميعها في عجّانة
تشبه عجانات الخبز في الأفران وهنا ومع تدوير العجانة يختلط المزيج ومع
إضافة المنكهات كالفانيليا وماء الزهر والعطور تصبح حلاوة الطحينية جاهزة
للتعبئة في عبوات خاصة بأوزان مختلفة تبدأ من 500 غرام وحتى الكيلوين وذلك
حسب رغبات الزبائن، ولزيادة متعة مذاقها نزين وجه الحلاوة بالفستق الحلبي
أو الزبيب.
ولكن من أين جاءت تسميتها بالشوشية؟ يبتسم موصلي: هي تسمية غريبة نوعا لا
أعرف من أين جاءت هذه التسمية ولكن من المعروف أن لحلاوة الطحينية أنواعا
كثيرة أشهرها الشوشية والتي تتميز بأن نسبة الطحينة فيها قليلة لا تتعدى
الثلث فقط فيما الثلثين للناطف بينما في الحالة العادية تشكل النصف وتسمى
أيضا «علاكة» حيث تشبه الجبنة الشلل وأكثر زبائنها هم سكان الساحل السوري.
وهل تطورت طرق تحضير حلاوة الطحينية في السنوات الأخيرة؟ بالتأكيد - يوضح
أبو مظهر - فهي كغيرها من المأكولات يمكن التجريب والتطوير فيها حيث تم
إضافة جوز الهند لها والبعض أضاف الشوكولا والكاكاو وهذه لها ذواقتها وهناك
طلبات من بعض الزبائن (تواصي) لتحضيرها بالسمن الحيواني البلدي وهذه عادة
تكون مرتفعة الثمن وغنية جدا بالسعرات الحرارية ولكن مذاقها لذيذ جدا، ويرى
أبو مظهر أن الشوشية ومع مرور السنين ونتيجة هذه الإضافات عليها تحولت من
حلوى وطعام للعمال إلى حلوى للأثرياء فهؤلاء يدفعون مثلا مبالغ أكثر
لنحضّرها لهم بالسمن البلدي وكما يقول البعض منهم فإنهم يستمتعون بمذاق
مكوناتها وهم يتناولونها كقطع صغيرة أو حتى مع الخبز ومن الطرافة هنا أنه
تاريخيا كان الأثرياء ينظرون للحلاوة الطحينية بتعجرف واستعلاء وأنها حلوى
الدراويش والطفران والعامل ولكن اكتشفوا فيما بعد مذاقها اللذيذ فصاروا
يتناولونها ولكن ليست بكميات كبيرة وبشكل دائم بل يتناولونها من منطلق
«الاشتهاء» أي كلما رغبوا بمجاراة الفقراء وتناول الوجبات الشعبية.
ويروي موصلي لنا حكاية شقيقه مازن الذي كان له محاولة فريدة لم يسبقه إليها
أحد في تطوير حلاوة الطحينية وهي أنه قبل عدة سنوات سافر إلى تركيا وجلب
من هناك آلات تعمل على تنويع طرق تغليف الحلاوة وجعلها صغيرة الحجم تباع
بالقطعة مثل الشوكولا والراحة فقام بتعبئتها وتغليفها بأشكال متنوعة
وبمذاقات مختلفة (خمسة مذاقات) بالشوكولا وجوز الهند والفانيليا والفستق أو
السادة وبوزن 25 غراما على شكل أصابع أو بوزن 50 غراما حيث علبت بقوالب
كالزبدة وذلك لتصبح بمتناول الجميع وخاصة الأطفال في المدارس كما غلفّ
الحلاوة بطبقتين من البسكويت وباعها بسعر زهيد لا يتجاوز 15 ليرة سورية
ليتمكن التلميذ في المدرسة من شرائها وتناولها كالشوكولا، كذلك عمل ومن باب
التطوير أيضا على تغليف الطحينة بعبوات «ظرفية» مثل الكاتشب وصارت موجودة
في المحلات والمولات التجارية تحت اسم الشام بينما أطلقنا على منتجاتنا
العادية اسم الشرق.
وما حكاية الزيت الذي يعلو حلاوة الطحينة داخل جميع العبوات المعبأة فيها
والتي يلاحظها كل من يشتريها من الأسواق؟ يجيب موصلي: هذه مشكلة قديمة حيث
يخرج الزيت من الطحينة الموجودة ضمن المكونات وبالتالي فإن خروج الزيت حيث
يطفو في على وجه الحلاوة يسبب مع مرور الوقت جفاف الحلاوة وتيبسها مما يسيء
لمذاقها وطراوتها وتصبح قاسية ولذلك حاولنا التغلب على هذه المشكلة من
خلال إضافة مادة غذائية تحفظ الزيت داخل الحلاوة ولا تجعله يطفو وهي مادة
صحية صناعية تدعى ديمو دان تساعد في عدم خروج الزيت من مسامات الحلاوة
فتبقى محافظة على نعومتها وطراوتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق